السيف والكلمة      

   L'Epée Et La Parole       

 

انتهى الدرس النموذجي الذي قدمه الأستاذ من الثامنة إلى التاسعة، وموضوعه قصيدة: "السيف أصدق أنباء من الكتب" لأبي تمام. كنا ما يقرب من أربعين أستاذا نجلس في الصفوف الخلفية من القاعة الكبيرة، بينما كان التلاميذ في المقدمة. خرج التلاميذ وشغل بعضنا المقاعد الأمامية. جلس المفتش والأستاذ على المصطبة وراء طاولة القسم في انتظار المناقشة، وفوق رأسهما على  الجدار اللوحة الوحيدة في القاعة وقد كتب عليها بالحبر الصيني: "تذكروا أننا نربي أبناءنا لزمانهم لا لزماننا". جلست في الصف الثالث وأنا أنوي الاستماع وتسجيل كل ما يقال عملا بنصيحة خالي العروسي التي زودني بها في السنة الماضية: "إذا أردت أن تتعلم فاستمع أكثر مما تتكلم، فأنت جديد، وعليك الاستفادة من خبرة الذين سبقوك. ولا تنقد بقصد الاستفزاز، فالأسلوب مهم في النقد. وإن لم تكن لديك حجة على ما تقول فالصمت خير لك."

بدأت المناقشة بإشراف المفتش، وأخذ الأساتذة يقيمون التمهيد، والعرض، والطريقة، وتعقيبات الأستاذ، وعلاقته بالتلاميذ. وبدا واضحا أن اختلاف معايير التقييم بينهم يصل أحيانا إلى 180 درجة. وحين ناقش الحاضرون مغزى النص كان رأي معظمهم أن الغلبة للقوة عمياء كانت أم مبصرة. كانت حجتهم أن الجزائر والفيتنام تحررتا بها وأنها السبيل الوحيد لتحرير فلسطين والأراضي العربية، بل أضاف بعضهم بأنها السبيل الوحيد لتحقيق ما يصبو إليه الإنسان في الحياة. لم أشارك في النقاش، ولكني كنت متحمسا لرأيهم، فالقوة هي الصوت الوحيد المسموع في هذا العصر.

ضاعت الأصوات القليلة التي نبهت إلى دور القلم والفكر. لم  يسمح لها بعرض وجهة نظرها، فكانت تقاطع بما يشبه الخطب الحربية التي تقرر أن الرصاصة تساوي ملايين الكلمات. كان جاري الجالس على يميني وهو عراقي في بداية الخمسينات أحد هؤلاء. قال لي: "لقد انتصرت الغوغائية فالقوة هي الغابة، والأساتذة لا يفرقون بين الكلمات الفارغة والعقيمة والكلمات الخصبة التي بنت حضارات وأقامت دولا، وبنت عقولا وأبدعت علوما. الكلمة الصادقة هي تعبير عن أسمى ما في الإنسان من خير وحق وجمال. هي رسالات الأنبياء وحكمة الفلاسفة وإبداعات الشعراء. والقوة العمياء تعبير عن أحط ما في الإنسان من غرائز التسلط والجبروت والظلم. أما القوة المبصرة فخادمة للحق لا تسير إلا في ركابه، والحق كلمة. ولا يمكن للقوة مهما بلغت أن تنتصر عليه نهائيا وإلا لبقي الإنسان حيوانا تحكمه الغرائز. أي غباء هذا؟ من المؤسف أن ينتصر المعلمون للقوة ويحتقروا القلم والكلمة، وهما سلاحهما في تفتيح العقول، ففي أي طريق سيمضون بالأجيال؟" أحسست أنه صفعني بقوله هذا. وأضاف:"كثرت الكلمات العقيمة والخطاب الأجوف، وندرت الكلمة الطيبة المبدعة. من أجل  ذلك كفر الناس بها". ثم أردف بحرارة: "المعلم الذي لا يؤمن بالكلمة معلم زائف".

                              عبد الله خمّار               

                            من رواية "جرس الدّخول إلى الحصّة"                      

 5- الثلاثي الأول:  بريء أم مذنب؟ أ